![]() |
|||
![]() |
|
![]() | ![]() |
![]() |
![]() |
|
✿ التاريخ و الحضارة ╝ تاريخ قديم،آثار ،حضارات الشعوب ،تراث،أحداث وشخصيات تاريخية... |
![]() |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
![]() : تم تجزأة المقالة لجزئين لطولها دور الأندلس والأندلسيين في انتقال الإسلام من المغرب إلى جنوب أوربا ![]() ارتبطت مناطق غرب البحر المتوسط فيما بينها منذ القدم. وقد كانت الروابط والصلات أكثر وثوقا بين مناطق شمال إفريقيا وشبه جزيرة ايبيريا بحكم القرب الجغرافي بينهما. وازدادت تلك الروابط والصلات متانة بعد سنة 92 هجرية حين أصبحت أجزاء من شبه جزيرة ايبيريا تحت نفوذ المسلمين، وانتقلت للاستقرار بها أعداد من مسلمي شمال إفريقيا ومن مسلمي مشرق دار الإسلام. ومنذ سنة 92 للهجرة أصبح المجال الجغرافي الذي شمله نفوذ المسلمين في شبه جزيرة ايبيريا يسمى "بالأندلس"؛ سواء إبان مراحل امتداد هذا النفوذ أو خلال مراحل تراجعه. ومن المتعارف عليه أن العرب المسلمين اشتقوا تسمية "الأندلس" من اسم القبائل الجرمانية "الڤندال" التي شاركت في الموجة الأولى من غزوات القبائل الجرمانية خلال القرن الخامس للميلاد، والتي استقرت بإقليم "ڤانداليشيا" (Vandalicia) أو بيتيكا (Baetica) الواقع جنوب اسبانيا الحالية[1]. وتمثل الأندلس من وجهة نظر جغرافية الإقليم الواقع جنوب نهر الوادي الكبير، والذي يسمى حاليا أندلثيا (Andalucia). وقد صور الجغرافيون القدامى منذ العهد الروماني الأندلس (و مجموع شبه جزيرة ايبيريا) على هيأة مثلث. وأبرز من تبنى هذا التصور باولوس أوروسيوس أو هرشيوش[2] Paulus Orosius الذي وضع بين سنتي 416 و418 ميلادية مؤلفا في التاريخ[3]. خص الكتاب الأول منه للحديث عن المجال الجغرافي الذي تندرج في إطاره الأحداث المتناولة في مؤلفه. فجعل الأندلس، ومجموع أقاليم شبه جزيرة ايبيريا على هيأة مثلث ذو ثلاثة أركان. وقد تبنى هذا التحديد الجغرافي "أبو الجغرافية والتاريخ في الأندلس" أحمد بن محمد بن موسى الرازي[4]، حيث يذكر أن شبه جزيرة ايبيريا كلها ذات شكل مثلث. ويرى بأنها معتمدة على ثلاثة أركان: الأول هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي الآخذ بقبلي الأندلس. والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بمحاذاة مدينتي نربونة وبرذيل (بوردو الحالية). والركن الثالث منها في الشمال الغربي من بلد جليقية. ومن هرشيوش والرازي انتقلت هذه النظرية إلى الذين كتبوا عن جغرافية شبه جزيرة ايبيريا خلال القرن الخامس الهجري كالمحدث أحمد بن عمر بن أنس العذري، والجغرافي أبي عبيد البكري. وتواترها فيما بعد جغرافيو ورحالة القرون الموالية. ولازال يتبناها الجغرافيون المعاصرون[5]. ومن خلال هذه النبذة الجغرافية يتضح بأن الأندلس، ومعها شبه جزيرة ايبيريا، تنتمي جغرافيا للمجال الأوربي بحكم وقوع أحد أركانها بهذا المجال. وتكاد تنتمي كذلك جغرافيا للمجال الإفريقي بحكم قرب ركن آخر من أركانها من شمال إفريقيا عامة ومن المغرب بوجه خاص. وهذا ما يستشف من كلام أحد الباحثين في جغرافية البحر المتوسط حين يذكر بأن "اﻹسبان يعتقدون بأن اسبانيا، على الرغم من أنها جغرافيا جزء من أوربا، إلا أنها لا تنتمي إليها بمعنى الكلمة. إذ تتجه أكثر نحو شمال غرب إفريقيا. فإفريقيا تبدأ حدودها هنا من جبال البرانس كما حدث أثناء حكم المور"[6]. وقد شهدت شبه جزيرة ايبيريا، منذ سنة 92 للهجرة، أحداثا وتطورات جعلتها فعلا مرتبطة بشمال غرب إفريقيا. وإن الأندلس التي كانت في قلب تلك الأحداث والتطورات أصبحت منذ هذا التاريخ، وأكثر من أي وقت مضى، نقطة تقاطع بين المغرب (وشمال إفريقيا ودار الإسلام) وجنوب أوربا. ولا نحتاج إلى التأكيد بأن هذا الانتماء المزدوج جعل الأندلس تنفرد عن باقي مناطق البحر المتوسط. كما كانت له أبعاد بالغة الأهمية؛ إذ أتاح للأندلس و"للأندلسيين" إمكانية القيام بدور متميز في التواصل الحضاري بين شمال إفريقيا وجنوب أوربا. تجلى هذا الدور في عدة مجالات، ومن بينها المجال الديني الذي يهمنا في هذا البحث، وخاصة ما يتعلق بإسهام الأندلس والأندلسيين في انتشار الإسلام بمناطق جنوب أوربا ما وراء جبال البرانس، بعد أن انتقل من المغرب إلى الأندلس. ابتدأت علاقة الأندلس بالإسلام رسميا في رمضان من سنة 92 هجرية. ونميز في تاريخ تلك العلاقة بين مرحلتين: مرحلة أولى امتدت من سنة 92 هـ. حتى حدود سنة 100 هـ. كانت فيها الأندلس هدفا لعمليات الفتح وفضاء انتقل إليه الإسلام من المغرب. ومرحلة ثانية امتدت من سنة 100 هـ. تحولت فيها الأندلس إلى محطة أخذت تنطلق منها عمليات نشر الإسلام بأقاليم جنوب أوربا. أما عن دور"الأندلسيين" في انتقال الإسلام من المغرب إلى جنوب أوربا وانتشاره في مناطق ما وراء جبال البرانس، فيمكن التمييز فيه هو الآخر بين مرحلتين: • مرحلة أولى امتدت من سنة 92 هـ. حتى حدود سنة 138 هـ.، تاريخ قيام الإمارة واستقلال الأندلس عن الخلافة الإسلامية. في هذه المرحلة كان الأندلسيون موضوع عمليات الفتح والمتلقين للديانة الجديدة، وإن اشتركوا خلال الفترات المتأخرة من هذه المرحلة في نشر الإسلام بربوع شبه جزيرة ايبيريا وفي أقاليم ما وراء جبال البرانس. • ومرحلة ثانية ابتدأت سنة 138 هـ. وفيها أصبح الأندلسيون عناصر فاعلة في حركة انتقال الإسلام من شمال إفريقيا إلى جنوب أوربا؛ بحكم قيادتهم للعمليات التي تم القيام بها في هذا الشأن. وأبرزها عمليات تثبيت (وإعادة نشر) الإسلام في جزر البليار. أولا: الأندلس فضاء يتلقى الإسلام من شمال إفريقيا: ابتدأت عمليات فتح الأندلس كما هو معروف في رمضان من سنة 92 للهجرة. وقد سجلت منعطفا في شهر ذي القعدة من سنة 95 هجرية حين بدا موسى بن نصير وطارق بن زياد رحلة العودة إلى دمشق بأمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك. ورغم قصر المدة التي استغرقتها العمليات العسكرية التي قاما بها في شبه جزيرة ايبيريا، فقد شكلت إحدى أضخم عمليات الفتح ونشر الإسلام في عهد الدولة الأموية. وقد كان من الممكن أن يستكمل هذا الانجاز جميع مراحله لولا الأمر الصادر عن الخليفة بوقف العمليات العسكرية التي كانت على وشك أن تجعل جميع أقاليم شبه جزيرة ايبيريا تحت راية الإسلام. بحيث إن المد الإسلامي بها وصل إلى حدود البحر المتوسط في الشمال الشرقي وإلى مقدمة أقاليم دولة البرتغال الحالية في الشمال الغربي. وقد حاول عبد العزيز بن موسى بن نصير استكمال عمليات الفتح بعد أن استلم إدارة الأقاليم المفتوحة بتكليف من أبيه. غير أن الجهود التي بذلها خلال السنتين وبضعة أشهر التي دامتها ولايته كانت محدودة نسبيا رغم نجاحه في ضم أقاليم الشمال الشرقي وأقاليم الجنوب الشرقي إلى حظيرة الإسلام. ودون الخوض مطولا في تفاصيل أحداث هذه المرحلة الأولى من مراحل انتشار الإسلام بشبه جزيرة ايبيريا، التي توقف عندها المؤرخون القدامى والباحثون المحدثون، فلا بأس أن نقدم بين يدي القارئ نصا بالغ القيمة لابن القوطية يلخص مجريات العمليات العسكرية التي شهدتها هاته المرحلة، ويسمح بتكوين فكرة عن خارطة انتشار الإسلام بشبه جزيرة ايبيريا مباشرة بعد الفتح. يقول ابن القوطية: "فلما جاوز طارق وصار بعدوة الأندلس، كان أول ما افتتحه مدينة قرطاجنة، بكورة الجزيرة (...) ثم تقدم إلى أستجة، والى قرطبة، ثم إلى طليطلة، ثم إلى الفج المعروف بفج طارق، الذي منه دخل جليقية. فخرق جليقية حتى انتهى إلى أسترقة (...) وأخذ موسى في ساحل شذونة. وكان دخوله بعد طارق بسنة. وتقدم إلى شذونة، ثم إلى اشبيلية فافتتحها. ثم قصد من اشبيلية إلى لقنت، إلى الموضع المعروف بفج موسى في أول لقنت إلى ماردة (...) وتقدم فدخل جليقية من فج منسوب إليه فخرقها حيث دخلها ووافى طارقا بأسترقة. ثم أتاهما عهد الوليد بن عبد الملك بالانصراف فانصرفا (...) وشد موسى بن نصير حصون الأندلس واستخلف ابنه عبد العزيز على الأندلس وأسكنه اشبيلية."[7]. شملت عمليات الفتح كما يتضح من النص أهم المراكز الحضرية التي كانت معروفة بشبه جزيرة ايبيريا. وقد كانت تقيم في كل مركز تم فتحه حامية عسكرية تؤمن السيادة عليه، بينما يتقدم الفاتحون إلى المركز الموالي. وبناء عليه، فقد انتشر الفاتحون بعد انتهاء عمليات الفتح مباشرة، ثم خلال السنوات التي أعقبتها، بالمناطق الواقعة على طول خطوط الفتح. فقد استقر البربر في المراكز الواقعة على طول الطريق التي سلكها طارق بن زياد مثل الجزيرة الخضراء ومالقة وإلبيرة وقرطبة وبلنسية وطليطلة. بينما فضل عدد آخر منهم الاستقرار في أحواز المدن، أو في بعض المناطق الجبلية المشابهة لمواطن استقراهم في العدوة المغربية. أما العرب فقد استقروا في الحواضر الواقعة على طول الطريق الذي سلكه موسى بن نصير، مثل مدينة شذونة واشبيلية وماردة ووشقة وسرقسطة وطرطوشة. واتسع مجال الاستقرار[8] فيما بعد في حواضر أخرى قديمة وفي حواضر مستحدثة. وقد خضع الاستقرار لعامل الغلبة العددية أحيانا قليلة ولعامل الصدفة في معظم الأحيان كما يستشف من نص للمقري يذكر فيه أن العرب والبربر كانوا كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه، حطوا به ونزلوه قاطنين. فاتسع نطاق الإسلام بأرض الأندلس[9]. ويتضح جليا بأن الإسلام، الذي كان وجوده يقف عند حدود سواحل البحر المتوسط قبيل شهر رمضان من عام 92 هجرية اتسع نطاقه فعلا وأصبح يشمل بعد سنتين أو ثلاث سنوات من هذا التاريخ أغلب الحواضر الايبيرية التي كانت تضم أكبر التجمعات البشرية خلال فترة الحكم القوطي. وقد اعتنق عدد من سكان هذه التجمعات الإسلام، بينما بقيت عناصر أخرى محتفظة بدينها مع تبنيها للغة القرآن وللثقافة الإسلامية. وبما أن عددا من العرب ومن البربر ظلوا يتوافدون على الأندلس، فرادى أو جماعات، فقد أفضت هجراتهم واتصالهم الوثيق بالسكان المحليين، عن طريق الجوار والمعاملات اليومية، إلى تغلغل الإسلام. كما أفضت في ذات الوقت إلى اتساع رقعة تأثيره. وخاصة بعد أن ضاقت الحواضر القديمة بسكانها فاضطر القائمون على الأمر في الأندلس منذ عصر الإمارة إلى استحداث مدن أخرى مثل بجانة وشنترين وبطليوس. وهكذا لم يكد ينصرم جيل بعد الفتح حتى كانت دائرة الإسلام ولغة الإسلام وثقافة الإسلام قد اتسعت رقعتها بشبه جزيرة ايبيريا. ثانيا: الأندلس قاعدة مساهمة في تفعيل حركة المد الإسلامي: تمثل سنة 100 للهجرة بداية انتقال المسلمين من مرحلة الاستقرار وترسيخ الإسلام بشبه جزيرة ايبيريا إلى مرحلة نشر الإسلام في أقاليم ما وراء جبال البرتات أو البرانس. وهي مرحلة تحولت فيها الأندلس إلى قاعدة أصبحت تنطلق منها حركة المد الإسلامي في اتجاه أوربا. وقد اتخذت مدينة برشلونة مركزا لانطلاق هذه الحركة التي دشنها الوالي الحر بن عبد الرحمن الثقفي ببعض الغارات الخاطفة على أقاليم جنوب غالة (أو غاليا) لم تؤكد حدوثها النصوص الإسلامية أو الدراسات العربية الحديثة، ولكن بعض النصوص اللاتينية أشارت إلى حدوثها. ومن بين أهم هذه النصوص "اخبارية مواساك" (Chronicon Moissiacensis) التي وضعها أيمريكوس (Aymericus De Peyraco). فقد كان هذا الأخير راهبا بدير مواساك (Moissac) جنوب غالة بين سنتي 1377 و1406 ميلادية؛ أنجز مؤلفا تحدث فيه عن تاريخ البابوات وعن ملوك غالة وعن الأقماط الذين تعاقبوا على إدارة قمطية تولوز، فأشار ضمن حديثه ذاك إلى حدوث غارات إسلامية على بعض مواقع هذه القمطية قبل سنة 719 م./ 100هـ.10. وعلى غراره ذهب الراهب الفرنسي جون-بيار بابون (Jean-Pierre Papon)، الذي وضع مؤلفا حول تاريخ قمطية بروڤانسيا، إلى القول بأن مسلمي اسبانيا طرقوا أبواب هذه القمطية منذ سنة 716 م. كما شنوا سلسلة غارات على إقليم سبتمانيا (la Septimanie) المجاور[11]. ويبدو أن تلك الغارات لم تكن عمليات عسكرية منظمة وهادفة بقدر ما كانت تحركات تقوم بها سرايا من حين لآخر لاختبار مدى حصانة المواقع استعدادا لاقتحامها مستقبلا من خلال عمليات منظمة. ومثل هذا الأسلوب كان المسلمون يتبعونه منذ أن شرعوا في فتح بلاد المغرب[12]. ومهما يكن من أمر، فان المتفق عليه بين المؤرخين العرب القدامى والمحدثين هو أن مرحلة نشر الإسلام في أقاليم جنوب غالة ارتبطت رسميا بشخص السمح بن مالك الخولاني الذي عينه الخليفة عمر بن عبد العزيز واليا على الأندلس خلفا للحر بن عبد الرحمن الثقفي. فبعد أن استلم مهامه سنة 100 هـ./719 م. تحرك على رأس جيش قوي في اتجاه الشمال حيث عبر جبال البرتات وتوغل في إقليمي بروڤانسيا وسبتمانيا. واستمر في التحرك حتى أشرف على مدينة طولوشة (تولوز الحالية) إحدى أكبر حواضر هذه الأقاليم. وقد أوشك المسلمون على فتحها لولا الهجوم المباغت الذي قام به أوديس (Eudes) دوق أكيتانيا، أقوى الوحدات السياسية في جنوب غالة. وقد انتهى هجومه باستشهاد الوالي والقائد السمح بن مالك وعدد من المحاربين[13]. ويتفق المؤرخون المسلمون والمسيحيون القدامى بأن هذه الهزيمة فتت في عضد المحاربين المسلمين وحالت دون تقدمهم، فاضطرت الأعداد القليلة المتبقية منهم للتراجع إلى أربونة (أو نربونة) (Narbonne) التي غدت منذ هذا التاريخ قاعدة متقدمة ينطلق منها المسلمون لنشر الإسلام بأقاليم غالة. وبعد فترة استغرقت ما ينيف عن الأربع سنوات قضاها الوالي الجديد عنبسة بن سحيم الكلبي في إعادة تنظيم صفوف الجيش الإسلامي، وفي حل الخلافات القائمة بين مختلف العصبيات، عاود المسلمون نشاطهم الجهادي في جنوب غالة. فعبروا جبال البرانس سنة 105 هـ. وشرعوا في شن هجوم كاسح على الأقاليم الواقعة جنوب غرب أربونة بدءا بإقليم قرقشونة (Carcassonne)، فإقليم نيمة (Nime)، فإقليم بورغونيا (la Bourgogne). ويبدو أن النجاح الذي حالف المسلمين هذه المرة شجعهم على المضي قدما في فتح أقاليم غالة. فاستمروا في اتجاه الشمال حتى أشرفوا على مدينة باريس، التي لم تعد تفصلهم عنها سوى مسافة قصيرة لم يتمكنوا من اجتيازها بسبب المقاومة العنيفة التي أبدتها فرق من محاربي بلدة سانس (Sens) بزعامة إيبون (St.Ebbon) أسقف البلدة الذي نجح في رد المسلمين بعد وقعة 109 هـ./727 م.[14]. والراجح أن استشهاد عنبسة بن سحيم في ظروف غامضة هو الذي حسم المعركة لصالح المسيحيين. فخسر المسلمون كل الانجازات التي حققوها من قبل. وتراجعوا إلى القاعدة الوحيدة التي ظلت تحت سيطرتهم في غالة وهي أربونة. وعادت المشاكل الداخلية لتطفوا على السطح خلال فترة امتدت زهاء خمس سنوات تعاقب خلالها على تدبير شؤون الأندلس خمس ولاة. فتوقفت من جراء ذلك عمليات التوسع ونشر الإسلام بأقاليم ما وراء جبال البرانس حتى بداية عهد الوالي عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي سنة 112 هـ./730 م. الذي احتفل، كما تقول النصوص، في الإعداد لحملة كاسحة على غالة. وانطلقت تلك الحملة فعلا في أوائل صيف عام 114 هـ.؛ حيث اخترقت جبال البرانس عبر ممر الروسنسڤال (Roncesvalles) متجهة مباشرة إلى أكيتانيا، باعتبارها أكبر وأقوى دوقيات الجنوب، التي سقطت في أيدي المسلمين. ومنها احكموا سيطرتهم على اثنتين من أكبر وأهم مدن جنوب غالة وهما طولوشة (تولوز) السالف ذكرها وبردال أو برديل (بوردو). ثم واصل المسلمون مسيرتهم نحو مدينة بواتيي التي توقفوا عند مشارفها استعدادا لملاقاة جيش غالي ضخم كان قادما من الشمال تحت إمرة شارل محافظ قصر أوسترازيا. وحدثت تلك المواجهة بين الطرفين وانتهت باستشهاد عبد الرحمن الغافقي وعدد كبير من المسلمين[15]. فتمكن محاربو غالة بقيادة شارل من استعادة كافة المواقع التي كانت بحوزة المسلمين باستثناء أربونة ومحيطها التي استعصت عليهم. ولم يتمكن مسيحيو غالة من استعادتها إلا سنة 141 هـ./759 م. على يد بيبن القصير (Pépin le Bref) خليفة شارل[16]. وقد أسالت وقعة بواتيي كثيرا من المداد. وذهب بعض مفكري الغرب، منذ القرن السادس عشر، إلى اعتبارها من المعارك الحاسمة في تاريخ أوربا السياسي والعسكري والديني. وكتب أحدهم في هذا الصدد بأن انتصار المسلمين فيها كان سيجعل أقاليم غالة تحت السيطرة الإسلامية[17]. فيما ذهب آخر إلى الاعتقاد بأن انتصار المسلمين فيها كان سيجعل مجموع أقاليم غرب أوربا جزءا من دار الإسلام[18]. ومما لا شك فيه أن تلك الوقعة كان لها تأثير سلبي على حركة المد الإسلامي في اتجاه غالة وجنوب أوربا عموما، بدليل أن المحاولات التي قام بها بعض الولاة بعد سنة 114 هـ. كانت قليلة ومحدودة الفعالية. بل الأكثر من ذلك أن مراكز الجنوب التي كانت في حوزة المسلمين أصبحت تحت سيادة مسيحيي غالة باستثناء قاعدة أربونة كما ذكرنا آنفا. ثالثا: "الأندلسيون" يتلقون الإسلام من المغرب: أوضحنا فيما مضى أن المسلمين أطلقوا اسم "الأندلس" على مجموع الأقاليم التي شملها نفوذهم في شبه جزيرة ايبيريا. وقد ظلت هذه التسمية مواكبة للوجود العربي-الإسلامي بشبه جزيرة ايبيريا إبان مراحل امتداد هذا الوجود أو خلال مراحل تراجعه وانكماشه. ومن ثم، فإننا نعني "بالأندلسيين" سكان المناطق التي شملها نفوذ المسلمين بشبه جزيرة ايبيريا. ونميز في هؤلاء السكان، من وجهة نظر تاريخية، بين سكان مرحلة ما قبل الفتح الإسلامي وسكان مرحلة ما بعد الفتح. يتألف سكان مرحلة ما قبل الفتح من العناصر اﻹسبانو- رومانية، ومن بقايا الوندال ومن القوط الغربيين ومن بعض العناصر اليهودية. ويتألف سكان مرحلة ما بعد الفتح من جميع هؤلاء ومن العناصر البربرية والعربية والسودانية التي قامت بعمليات الفتح. وقد تعززت هذه العناصر بأعداد أخرى من الذين هاجروا إلى الأندلس بعد انتهاء عمليات الفتح. وقد بدأت علاقة سكان مرحلة ما قبل الفتح بالإسلام في رمضان من سنة 92 هجرية حين وطأت أقدام المسلمين، بقيادة طارق بن زياد، أراضي شبه جزيرة ايبيريا. ومنذ هذا التاريخ تزايدت أعداد الذين ننعتهم بالأندلسيين، كما تنوعت انتماءاتهم اﻹثنو- جغرافية. إذ انضافت إلى العناصر اﻹسبانو- رومانية وبقايا الوندال والعناصر القوطية والعناصر اليهودية، أعداد من المحاربين البربر والسودان الذين قدموا إلى الأندلس تحت إمرة طارق بن زياد، ثم أعداد من المحاربين العرب قدموا تحت إمرة موسى بن نصير. ثم انضافت إلى هؤلاء طلائع العرب الذين انتقلوا من المشرق للإقامة بالأندلس، وأعداد من البربر عبروا بدورهم المضيق واستقروا هم كذلك بالأندلس. وقد شارك من ننعتهم بالأندلسيين، بمختلف انتماءاتهم الجغرافية واﻹثنية، بدور فعال في حركة المد الإسلامي طيلة عصر الولاة: • فالمحاربون البربر (وعدد من المحاربين السودان) والمحاربون العرب انطلقوا من المغرب ومن المشرق وقاموا بنقل الإسلام إلى شبه جزيرة ايبيريا. واجتهدوا في نشره في بعض أقاليم ما وراء جبال البرانس. • أما الوافدون غير المحاربين، من عرب وبربر، فقد ساهموا بدورهم في نقل الإسلام وحضارة الإسلام إلى الأندلس. كما قاموا بتثبيتهما وترسيخهما بمختلف الحواضر والأرياف التي استقروا بها من خلال التواصل مع السكان المحليين. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن عددا من الوافدين، من الذكور القادرين على حمل السلاح، انضموا، بعد عبورهم إلى الأندلس واستقرارهم بها، إلى فرق المحاربين وأسهموا في عملية نشر الإسلام في أقاليم ما وراء جبال البرانس. • أما السكان اﻹسبانو - رومانيين وبقايا الوندال والقوط الغربيون واليهود، فقد اعتنق عدد كبير منهم الإسلام وساهموا في تثبيت وجوده بشبه جزيرة ايبيريا. ولاشك أن بعضهم قد انضم إلى صفوف المحاربين وشارك في عملية نشر الإسلام خارج حدود شبه جزيرة ايبيريا. ومن المفيد التذكير في هذا المقام بأن عددا من الذين لم يعتنقوا الإسلام من بين هذه العناصر تعلموا اللغة العربية وساهموا في نشر لغة القرآن داخل شبه جزيرة ايبيريا وخارجها. ويعزى الفضل إلى عدد منهم في التعريف بالثقافة الإسلامية في مختلف مناطق أوربا. ورغم ما أوردناه من معطيات، فإننا نعتقد أن الأندلسيين ظلوا يحتلون موقع المتلقي للديانة الإسلامية حتى حدود سنة 138 هجرية تاريخ قيام الإمارة الأموية بالأندلس. لأن إسهاماتهم في حركة المد الإسلامي كانت تتم باسم الخلافة الإسلامية بالمشرق وتحت لواء الولاة الذين كانوا يديرون شؤون الأندلس باسم الخلافة مبدئيا. و بعد سنة 138 هجرية انتهى دورهم كمتلقين وتحولوا إلى عناصر فاعلة في عملية انتقال الإسلام من المغرب، ومن دار الإسلام عموما، إلى جنوب أوربا. وأصبح فعلهم يتم في إطار استقلال سياسي تام عن الخلافة. رابعا: الأندلسيون عناصر فاعلة في انتقال الإسلام من المغرب إلى جنوب أوربا: تمثل سنة 138 هجرية نهاية مرحلة التلقي، ليتحول الأندلسيون بعدها إلى عناصر فاعلة في عملية انتقال الإسلام إلى جنوب أوربا. على اعتبار أن جيل المحاربين أصبح بعد سنة 138 هـ. يخوض حروبه باسم الإمارة. كما أن أبناء وحفدة العناصر التي وفدت إلى الأندلس إبان الفتح وبعده مباشرة، وكذلك أبناء وحفدة السكان المحليين الذين اعتنقوا الإسلام منذ سنة 92 هـ. انتقلوا من مرحلة التلقي إلى مرحلة التفعيل، وذلك من خلال إسهامهم في تثبيت الإسلام بشبه جزيرة ايبيريا وإسهامهم في نشره ببعض أقاليم جنوب أوربا. ------------------------------------------ [1] لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع يمكن العودة إلى كتاب ج. س. كولان، الأندلس، تعريب لجنة الترجمة بدائرة المعارف الإسلامية، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، القاهرة-بيروت، 1980، ص.ص. 17-60. [2] باولوس أوروسيوس (Paulus Orosius) رجل دين، وأحد أبرز تلامذة القديس أوغسطين. ولد على الأرجح في مدينة طركونة باسبانيا بين سنتي 375 و380 ميلادية. اشتهر باشتراكه في عدة سجالات ضد المناوئين للمسيحية وللكنيسة في شبه جزيرة ايبيريا وفي افريقية وفلسطين. استقر في مدينة قرطاج التونسية وبها اعتكف بين سنتي 416 و418 م. على وضع مؤلفه الشهير "Historiarum adversum paganus" (تواريخ ضد الوثنيين). [3] اطلع مسلمو الأندلس على هذا المؤلف خلال القرن الرابع الهجري وقاموا بنقله إلى اللغة العربية. وقد أعاد الباحث المصري عبد الرحمن بدوي تحقيق هذا النص العربي وقدم له ونشره تحت عنوان "تاريخ العالم". وصدر صمن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت سنة 1982. وقد أعيد نشر نفس النص العربي بمدريد سنة 2001 تحت عنوان: Kitab Hurusiyus (traduccion arabe de las « Historiae adversus paganus » de Orosio), edi- cion y estudio Mayte Penelas, Consejo Superior de Investigaciones Cientificas y Agencia Espagnola de Cooperacion Internacional. [4] Al-Razi, Abu Bakr Ahmad Ibn Muhammad (mort en 344 H/952), Description de l’Espa-gne, texte traduit et établi par Evariste Lévi-Provençal, Al-Andalus, Vol. XVII, Fasc, 2, 1953, pp.51-108. [5] من بينهم على سبيل المثال الباحث الجغرافي ميشال درين (Michel Drain) الذي يرى بأن شبه جزيرة ايبيريا تبدو على هيئة مثلث، أطول أضلاعه يقع في واجهة المحيط الأطلسي، ويمتد على طول 250 كلم. أنظر كتابه: Géographie de la Péninsule Ibérique, Paris, P.U.F., 1972, p.127. [6] يسري الجوهري، جغرافية البحر المتوسط، منشورات منشأة المعارف، الإسكندرية، 1984، ص. 49. [7] أبو بكر محمد بن القوطية (توفي سنة 367 هـ.)، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، القاهرة-بيروت، 1989، ص.ص. 35-36. [8] لا يدخل ضمن اهتمامنا في هذا العرض الحديث بإسهاب عن مراكز استقرار الفاتحين. ولمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كتاب الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس لعبد الواحد ذنون طه، منشورات دار المدار الإسلامي، بيروت،2004، ص.ص. 173-284. [9] أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني (توفي سنة 1041 هـ.)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادرن بيروت، 1968، المجلد الأول، ص. 276. [10] يمكن العودة إلى النسخة اللاتينية من كتابه: Chronicon, Paris, Bibliothèque Nationale de France, Latin 4991 A. كما يمكن العودة إلى ترجمتها الفرنسية الموسومة ب: Chronique des abbés de Moissac, éd. et trad. Régis De La Haye, Maastricht, Maastricht- Moissac, 1994-2006., pp., 43-44. [11] أنظر كتابه: Histoire générale de Provence, Paris, éd. Moutard, 1777-1786, 4 volumes. [12] أنظر في هذا الشأن ما أورده عبد الرحمن بن عبد الحكم عن فتح افريقية في كتابه فتوح مصر وأخبارها. حيث يذكر (في الصفحة 34 من النسخة التي حققها عبد الله أنيس الطباع ونشرها تحت عنوان: فتوح إفريقيا والأندلس) أن عمرو بن العاص وبعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح كانا يبعثان"المسلمين في جرائد الخيل" إلى أطراف افريقية فيغنمون ويعودون. وقد خبروا بذلك تحصيناتها ومستوى جاهزية مقاتليها قبل أن يقوموا بفتحها. [13] أنظر وقائع ونتائج الوقعة في كتاب حسين مؤنس، فجر الأندلس (دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية)، العصر الحديث للنشر والتوزيع ودار المناهل للنشر والتوزيع، بيروت، 2003، ص.ص. 305-306. وأنظر معلومات عنها من وجهة نظر مسيحية في إخبارية فردڭير التي يتضمنها كتاب تاريخ الفرنجة لغريغوار أسقف كنيسة تور: Chronique de Frédégaire in Histoire des Francs de Grégoire de Tours,éd. et traduction François Guizot, Paris, J. L. J. Brière Libraire, 1825, Tome II, p.238 et suivantes. [14] لمزيد من التفاصيل حول شخصية إيبون وحول الوقعة المذكورة يمكن العودة إلى كتاب: Abbé Cornat, Notice sur les archevêques de Sens et les évêques d’Auxerre, Sens, Impri- merie et librairie Ch. Duchemin, 1855, pp.12-13. [15] أنظر رواية إخباريي غالة عن هذه الوقعة في إخبارية فردڭير التي سبقت الإحالة عليها، ص.ص.240-241. وفي إخبارية أديمار: Adémar de Chabannes (mort en 1034), Chronicon, éd. Jules Chavanon, Paris, éd. Picard, 1866-1919, Livre I, chap. 52, p. 52. [16] نفس المصدر، الكتاب الأول، فصل 59، ص.61. [17] François-Marie Arouet (Voltaire), Essai sur les mœurs et l’esprit des nations, Paris, éd. Garnery, 1875, Tome I, chap., VI, p. 368. [18] François-René de Chateaubriand Analyse raisonnée de l’histoire de France, Paris, éd. Furne, 1865, Tome VIII, p. 16. يتبع.... المصدر: منتديات قسوة وداع - من قسم: ✿ التاريخ و الحضارة `xi` `RiW`iP`xiW`m i`RiW`iP`xiW`mi.i.iP i[i. `RiP`Iio`RiW `RiW``miW`RiS iSiP `RiWiS`a``~ `iWi `'iPi`~ `i``~`R iSiP i`RiW`iP`xiW`mi.i.iP `i``~`R `iWi `RiWiS`a``~ `RiW`iP`xiW`m `RiW``miW`RiS `RiP`Iio`RiW `'iPi`~ ![]() ![]() ![]()
«
الموضوع السابق
|
الموضوع التالي
»
الساعة الآن 07:20 PM
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 |